هجرات الثّورات والمؤاخاةُ بين المهاجرينَ والمهاجرين

 

 

معَ حلولِ رأس السّنة الهجريّة من كلّ عامٍ يستذكر المسلمون الهجرة النبويّة وأحداثها ودروسها، ‏ويسعى الذين تركوا ديارهم تحت وطأة الظّلم والاستبدادِ إلى تنسّم معنى الهجرة في محنتهم وإسقاط مفاهيمها على واقعهم، واستدعاء شجون الهجرة الأولى من حبّ الدّيار والحنين إليها ‏والعودة بالفتح المظفّر في هجراتهم المعاصرة

 كما أنّهم يستحضرون على الدّوام مفهوم المؤاخاة بين ‏المهاجرين والأنصار في تقعيد العلاقة بينهم وبين الشّعوب التي ضمّتهم واحتضنتهم

 وكلّ هذا ‏متفَهَّم وجميل؛ غير أنَّ الحديث عن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار يستلزم استحضار الحالة التي ‏كان عليها كلّ من المهاجرين والأنصار عند تحقيق هذه المؤاخاة.‏

فالمهاجرون كانوا كيانًا واحدًا وشريحةً متمازجةً فيها العربيّ والفارسيّ والرّوميّ والحبشيّ الذين ذاقوا ‏ظلمَ قريشٍ، وتعاملوا مع الأنصار الذين كانوا كيانًا مقابلًا بمنطقِ المؤاخاة التي كانت تطبيقًا أبعد ‏ما يكون عن الشعاراتيّة التي يعيشها النّاس اليوم.‏

أمَّا المهاجرون اليوم فقد رمتهم يد الظّلم عن قوسٍ واحدة، وألقت بهم في مجاهيل المنافي، ‏واستقبلوا بوجوههم بلادًا جديدة، وشعوبًا تحدب عليهم حدب الأخ على أخيه

لكنهم انكفؤوا ‏على أنفسهم فتشرنقوا في انتماءاتهم لسايكس بيكو التي رفعوا جدرانها وسواترَها التّرابيّة عاليًا في ‏نفوسٍهم وأرواحهم، وتخندقوا في القوالب الحزبيّة، وتعصّبوا للجماعة والتيّار والمسجد والشّيخ؛ ‏فكانوا في بلاد هجراتهم كياناتٍ متباعدةً معنىً وإن اقتربت حسًّا، متفرقًّةً حقيقةً وإن التَقَت مجازًا.‏

ومن الطّبيعيّ أن يقال: إنَّ وجود الكيان الواحد للمهاجرينَ في عهد النبوّة سببه وجود قيادةٍ ‏‏واحدةٍ يلتفّون حولها ويصدرون عن قراراتها، غيرَ إنَّ موجبات ومستلزمات وجود هذا الكيان اليوم ‏قائمة ومتحقّقة ومتيسّرة

فعدوّهم الذي هجّرهم يمارسُ مع حلفائه المؤامرة عليهم مجتمعين، ويدمّر ‏ديارهم وينقض ثوراتهم ويهدم إنجازاتهم ويهدر قضاياهم برؤية متكاملة للساحات كلّها

 كما أنَّهم ‏اجتمعوا جميعًا في بقاع واحدة فرُفِعت الحدود، وأزيلت موانع التواصل والالتقاء؛ لكنّهم حفروا ‏بينهم أخاديد عميقةً من العصبيّات المختلفة.‏

• المهاجرون وأولويّة الاندماج

وسرعان ما يفكّرُ المهاجرون من وطأة الظلم بالتمازج مع المجتمعات الجديدة ويرفعون ‏شعار “الاندماج” ويقيمون له المؤتمرات والملتقيات وورشات العمل

 فالفلسطينيّون والسّوريّون ‏والمصريّون والعراقيّون واللّيبيون واليمنيّون وغيرهم من المهاجرين اضطرارًا إلى تركيا يفكّرون ‏ويخطّطون كلٌّ على حدة، وكلّ جاليةٍ بمفردها؛ كيف يندمجون مع المجتمع التركيّ؟ وكيف يفيدون ‏منه ويفيدونه؟

وكذلك تفعل الجاليات العربيّة في أوروبا التي وجدوا فيها ملجًا من القهر ‏والاستبداد، حيث يضعون نصب اعينهم آليّات الاندماج مع المجتمعات الجديدة مع الحفاظ على ‏الهويّة التي يعتزّون بها وينتمون إليها

 وكلّ هذا جميلٌ وضروريّ وواجب تفرضه قواعد الدّين ‏والأخلاق وقيم الوفاء وإرادة الحياة

 غير أنَّ هذا يطرح السّؤال الآتي على كلّ هذه الجاليات: هل ‏الأولويّة في الاندماج مع المجتمعات الجديدة أم للاندماج فيما بينكم أنتم أبناء القهر والظلم ‏والجراح الثّاغبة؟!

وهل يمكنكم أصلًا أن تندمجوا مع المجتمعات الجديدة وأنتم متفرقون كالغنم ‏الشريدة في اللّيلة المطيرة؟!

لن تقبلكم هذه المجتمعات الجديدة وهي تراكُم متفرقين يصدّ بعضكم عن بعض، وتتدابرون ‏حقيقةً وإن تعانقتم ظاهرًا

ولن تحترمكم الشّعوب التي ألقيتكم بين أيديها أعباء هجرتكم وهي ‏تراكم وقد استعصى على الظّلم المشترك أن يوحّد صفّكم، وعجزَ الجرح الواحد أن يلمّ شعثكم

 ‏وفشلت كلّ الضّربات التي ذقتموها على رؤوسكم في إقناعكم بالالتقاء على مائدة التنسيق ‏الحقيقيّ والقرار المشترك الواقعيّ لا الظّاهري؛ وأنتم تعيشون الهجرة نفسها جراء الظلم والقمع ‏والاستبداد ذاته.‏

ولئن كانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار من أهم نتائج الهجرة النبويّة

 فإنَّ هجرات اليوم ‏ينبغي ‏أن تتمخّض ابتداءً وقبل أيّ نوعٍ من العلاقة بين المهاجرين وغيرهم عن المؤاخاة بين ‏المهاجرين ‏والمهاجرين، المؤاخاة بين أبناء الجراح النّازفة

 وقبلَ أيّ حديثٍ عن الاندماج بين ‏المهاجرين ‏والأنصار يجب أن يتركّزَ العمل والحديث عن المؤاخاة بين أبناء البلاد التي ألقت إلى ‏المنافي أفلاذ ‏اكبادها

 فالمؤاخاة بين الفلسطينيين والسوريين والمصريين والليبيّين واليمنيين والعراقيّين ‏وغيرهم من أبناء بلاد ‏الثّورات والمحن والطّغيان هي ركيزة الانطلاق لعلاقةٍ سليمةٍ وسويّة وفاعلةٍ ‏ومثمرةٍ مع أبناء البلاد التي تحتضنُ ترحالهم.‏

• كيفَ السّبيل؟!‏

لم يُقِم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الرّابطة بين المهاجرين والأنصار إلّا بعد ان ألغى العصبيّات ‏الجاهليّة فيما بين المهاجرين

 فلم يعد يستشعر العربيّ أدنى فضلٍ على غير العربيّ من فارسيّ ‏وحبشيّ وروميّ، وما عاد للقرشيّ أنفةٌ على الآخرين من غير أبناء قريش

 وكذلك ألغيت هذه ‏العصبيّات فيما بين الأنصار أنفسهم، فما عادت النداءات الأوسيّة والخزرجيّة إلَّا دعاوى منتنة ‏يرفضها عمومهم، ويرمى بوصف الجاهليّة كلُّ من يحاولُ بعثها من جدثها.‏

وإنَّ أوَّل خطوةٍ لتحقيق المؤاخاة بين المهاجرين والمهاجرين تكمنُ في نبذ العصبيّات الجاهليّة، ‏العصبيّة العمياء للجماعة والتيّار والحزب والرّمز والأرض والوطن والجنسيّة؛ هذه العصبيّة التي تمنع ‏الالتقاء الحقيقيّ والمؤاخاة الصّادقة

 على أننّا نحتاج دوما إلى التّأكيد على أنَّ نبذ العصبيّة ‏للجنسيّة والأرض لا يتنافى مطلقًا مع الانتماء للأوطان والبلدان

 فالانتماء شيءٌ والعصبيّة ‏الجاهليّة شيءٌ آخر، والانتماء الحقّ يقتضي التكامل مع الآخر لا التّشرنق حول الذّات والتقوقع ‏على القضيّة الخاصّة.‏

والخطوة التّالية بعدَ نبذ العصبيّات الجاهليّة؛ أن تشكّل كيانات المهاجرين في كلٍّ منفى اختياريّ ‏أو اضطراريّ مجلسًا قياديًّا يجمع رموزها المؤثّرة

 ويعمل على تحقيق الاندماج الواقعيّ الفعليّ بين ‏قواعد المهاجرين مؤاخاةً حقيقيّةً تعكسها البرامج والفعاليّات المشتركة، والتّواصل الحثيث بين ‏الفئات والشرائح العمريّة والاجتماعيّة في المستويات كافّة

 لا مجرّد لقاءاتِ نخبةٍ، واجتماعات ‏شايٍ على مستوى الرّموز، ثمّ يتوهمون أنّهم حقّقوا المنشود من وحدة الصّفّ واجتماع الكلمة.‏

إنَّ المؤاخاةَ بين المهاجرينَ والمهاجرينَ سابقةٌ على المؤاخاة بين المهاجرينَ والأنصار، وقاعدةٌ ‏ارتكازيّة لازمةٌ لتحقيق ما بعدها

 وعلى جميع الطّاقات الفكريّة والتربويّة والشرعيّة والدّعويّة ‏والسياسيّة والإعلاميّة التّصدّي لتحقيقها وتفعيلها واستثمارها في المعركة ضدّ الطّغيان والاستبداد

 ‏وإلَّا فليخفِّف قادةُ ورموزُ المهاجرين الكرام من إتحافنا على الدّوام بالتغنّي بالمؤاخاة، وليتوقّفوا عن الترنّم ‏بشجون الهجرة، والتّفاخر بانتساب هجرتهم إلى المهاجر الأكرم صلّى الله عليه وسلّم. ‏

 

 

 

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه