انتخابات إسبانيا التشريعية.. إعادة زادت الطين بلّة

 

 

   عاشت إسبانيا يوم الأحد 10 نوفمبر/ تشرين الثاني انتخابات تشريعية لاختيار 350 عضوا للبرلمان و208 لمجلس الشيوخ. وهي في الحقيقة إعادة لانتخابات أبريل/ نيسان الماضي التي فشل فيها، رئيس الحكومة بيدرو سانشيث في الوصول إلى تحالفات بين حزبه الاشتراكي وبقية الأحزاب بمختلف إيديولوجياتها لتجميع 176 مقعدا تمكّنه من تشكيل حكومة.  قرار الإعادة  كان تعبيرا واضحا عن عمق الأزمة السياسية التي تعيشها إسبانيا، لكن الحاصل هو أن النتائج التي أفضت إليها هذه الانتخابات أدخلت البلد في أزمة أعمق.

    منذ انتخابات 2014 التشريعية، ودّعت إسبانيا مرحلة القطبية الثنائية الحزبية التي عاشتها على مدى أكثر من ثلاثة عقود بعد موت الديكتاتور فرانكو. وعجز الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي على مقاومة الدخول المزلزل للأحزاب الشابة الجديدة على غرار بوديموس ومواطنون الى المشهد.

الكابوس

      وقد مثّل حضور حزب بوديموس على وجه الخصوص، في البرلمان كابوسا دائما للحزبين العريقين، وساهم بشكل كبير ولأول مرة، في الوصول الى سحب الثقة في 2018 من الرئيس السابق اليميني ماريانو راخوي والتصويت لبيدرو سانشيث الرئيس الحالي عن الحزب الاشتراكي. مثلت تلك الخطوة ضربة قاضية للحزب الشعبي، ذي القاعدة الشعبية الواسعة رغم فضائحه المالية الكبرى. وكذلك لم يهنأ غريمه، الحزب الاشتراكي، بأي نوع من الأريحية في انتخابات 2018 رغم حصوله على أعلى عدد من المقاعد (123 من 350). وبهذا ودّعت إسبانيا معطى “الأغلبية المطلقة” وأصبحت حاجة حزبيْها العريقَيْن للتفاوض مع الأحزاب الفتِيّة واقعا لامفرّ منه.

     يُجمع أغلب الإسبان على أن المسؤول عن إضاعة الوقت وتحميل المال العام كُلفة انتخابات جديدة هو بيدرو سانشيث وحزبه الاشتراكي. فالرجل في نظر هؤلاء “أخذته العزة بالإثم” والكِبر، وأعرض عن نُصح الناصحين. واعتقد حزبه في أبريل / نيسان 2019، أنه بـالـ53 مقعدا التي كانت تنقصه، سيُخضع الأحزاب الراغبة في الحكم لشروطه، لكن هذه الأخيرة كانت واعية بحاجة الحزب الاشتراكي لها ومارست ابتزازا واضحا. علما بأن الإمكانية الأكثر منطقية كانت آنذاك التحالف مع حزب بوديموس (35 مقعدا) وبعض الأحزاب الصغيرة. أمّا عن تحالف الأحزاب اليمينية في الانتخابات ذاتها فقد كان شبه مستحيل.

إعادة جولة التفاوض

      حسابيا، ومن ناحية التحالفات المحتملة، المشهد هذه المرة لم يختلف. فالحزب الاشتراكي يستمر في الصدارة بـ120 مقعدا، بمعنى أنه مُجبر على إعادة جولة التفاوض مع الأحزاب التي يمكنها أن تُشكل حكومة معه. لكن المفاجأة التي حصلت في الحقيقة كانت على مستويين، أولهما: صعود مُدوٍّ لحزب “فوكس”، اليميني المتطرف بحصوله على 52 مقعدا بعد أن كانت 24 في أبريل/ نيسان الماضي وانتعاشة تُذكر للحزب الشعبي بحصوله على 88 مقعدا بعد  أن كانت 66. جدير بالذكر أن إسبانيا، كانت سنة 2018، البلد الأروبي الوحيد الخالي من الأحزاب اليمينية المتطرفة، غير أن دعم شريحة من الإسبان للمشاركة الأولى لحزب فوكس في أبريل/ نيسان الماضي، أنذرت بصعوده المحتمل، لكن لا أحد توقّع حصوله على المرتبة الثالثة. وثانيهما: تبخّر ظاهرة حزب “مواطنون” الليبيرالي ونزوله من 57 مقعدا الى 10، مما أدى الى استقالة زعيمه.

     من جانب آخر، حصدت الأحزاب القومية ثقة أكثر في مقاطعاتها، وخصوصا تلك الانفصالية في كتالونيا، وهي معادلة ستضع الحزب الاشتراكي في إحراج كبير لدى تشكيل الحكومة، إذ يبدو أن سانشيث سيضطر لتجرّع العلقم الكتلوني مستقبلا مقابل انضمامها للتحالف الحكومي. ما سجّل مفاجأة أخرى في إقليم كاتلونيا المُتمرد هو حصول حزب “فوكس” المتطرف على مقعدين في عُقر برشلونته، مما يؤكد حدّة الصراع الأيديولوجي الذي تعيشه المقاطعات الإسبانية بأكملها خصوصا إذا علمنا أن هذا الحزب يعتبر الديكتاتور فرانكو قُدوة وفخرا لتاريخ البلد، وأن إيمانه بوحدة إسبانيا يُشرّع حتى ارتكاب المجازر في حق كل من تُسوّل له نفسه الخروج عن طاعة السلطة المركزية في مدريد.

أحكام للنكاية

     في الحقيقة، ساهمت أحداث كثيرة خلال الفترة الفاصلة بين انتخابات أبريل / نيسان وإعادتها في نوفمبر/ تشرين الثاني في تغذية الأحزاب الانفصالية وفي مقابلها حزب “فوكس”. إذ مثلت أحكام السجن القاسية التي أصدرتها المحكمة العليا في مدريد في أكتوبر/ تشرين الأول في حق شخصيات سياسية كتالونية قادت استفتاء الانفصال  2017، في استفزاز شريحة كبرى من سكان الإقليم الغاضب، بما في ذلك أولئك الذين لم يصوتوا للانفصال، لما في الأحكام من تشف ونكاية سياسية. وقد كانت ردة فعل الكتالونيين العنيفة والإضرابات وقطع الطرق  وانتهاك مؤسسات الدولة التي ترجع بالنظر الى السلطة المركزية، سببا مباشرا في الخروج الانفعالي لبقية الإسبان  الرافضين تماما للانفصال، والمتأثرين بالخطاب الإعلامي المتطرف النّاقم على اقليم كتالونيا بأكمله.

      لقد أكّدت نتائج إعادة الانتخابات البرلمانية بما لايدع مجالا للشك أن الرابح الأكبر هو العجز عن تجاوز الفرقة والاختلاف من أجل المصلحة العامة، فالتحالفات التي كانت ممكنة في انتخابات أبريل/ نيسان، لازالت كذلك في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني ولكن بصعوبة أكثر. وواضح أيضا أن تجاوز الاختلاف يرجع بالضرورة الى عامل الغرور والجشع الذي يبدو أنه مرض سياسي تفشى مؤخرا بين الأحزاب.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه