من ميونخ: “من فضلك ألقِ تحية الصباح على نفسك”!

هذه تجربة عشتها عندما كنت حديث العهد بألمانيا،  كنت دائم الابتسام وتوزع السلامات علي الجميع،  من أعرف ومن لا أعرف ، كان البعض ينظر باستغراب ولا يرد

تبدو معايشة العنصرية أمر صعب التحديد والتوصيف في المجتمعات الغربية، فمن واقع التجارب والمعايشة الشخصية نجد أن اختلاف الثقافات والعادات والتقاليد تلعب دورا مهما في تحديد مفهوم العنصرية، فهي قد يتم فهمها بطرق خاطئة، وقد تفسر بعض السلوكيات المختلفة على أنها أحد أشكال العنصرية!

حتى المجتمعات الغربية تختلف بعضها عن بعض، فألمانيا ليست فرنسا أو إنجلترا، وإسبانيا وإيطاليا أكثر دفئا في العلاقات من شمال ووسط أوربا، وبين الأوربيين بعضهم البعض قد تجد نوعا من العنصرية يرجع سببه إلى تفوق دولة على دولة في القوة والاقتصاد، وحتى في الدولة الواحدة فألمانيا الغربية ما زالت تنظر إلى الألمان الشرقيين نظرة عدم مساواة!

لكن كيف يفرق المرء بين النظرة العنصرية والاختلاف الثقافي؟ـ  إن هذا الأمر يحتاج إلى سنوات طويلة،  وتجارب متراكمة حتى يستطيع  المرء فهم الثقافة التي يعيش فيها،  فمثلا ماذا يعني أن تلقي التحية على شخص لا يرد عليك؟

هل هذا نوع من أنواع العنصرية ؟!

هذه تجربة  عشتها عندما كنت حديث العهد بألمانيا،  كنت دائم الابتسام وتوزيع السلامات علي الجميع،  من أعرف ومن لا أعرف، كان البعض ينظر باستغراب ولا يرد، حتى تصادف أن ألقيت السلام على أحد الجيران في مصعد البناية التي نسكن فيها ولم يرد،  عندها ارتبكت واعتقدت أن هذا نوعا من العنصرية وتوقفت عن إلقاء التحية ..
 ومع مرور السنوات اكتشفت أن هذا أمرا عاديا،  فكثيرون لا يلقون التحية،  وكثيرون لا يردونها، وكثيرون آخرون لم يسمعوك في الأساس،  وفي احدي المرات شاهدت إعلانا في الحافلات  ووسائل النقل يخاطب الألمان بالقول من فضلك: ألقِ تحية الصباح على نفسك كل يوم قبل أن تخرج إلى الشارع !

إذن سلوكيات البشر في التعاملات اليومية قد لا تستطيع الحكم عليها بأنها عنصرية، لكن الأخطر هو التمييز والاضطهاد، مثلا في السكن والعمل والمدارس ودور العبادة.

جاؤوا من مصر للدراسة

  في الآونة الأخيرة قدم طلاب كثيرون إلى ألمانيا للدراسة من مصر على سبيل المثال؛ لكنهم يجدون صعوبات كثيرة في الحصول على سكن، لأن الاعتقاد السائد هنا أن الألمان يفضلون ألمانا مثلهم أو أوربيين.

كثيرون من الألمان منفتحون على عادات وسلوكيات الخارج بسبب سفرهم الكثير حول العالم، وكثيرون يفهمون ثقافة وطباع عرقيات عديدة تعيش بينهم هنا، ويمكنك أن تعيش عمرك كله هنا دون أن تمر بتجربة عنصرية واحدة، كما يمكنك أيضا أن تمر بها في أول يوم من وصولك، الأمر كله يعتمد على شكل التعامل ومدي فهمك له.

في إحدى المرات ذهبت مع صديق لشراء سيارة، وبعد توقيع عقد الشراء مع التاجر الألماني مد يده في ثلاجة مجاورة له واخرج منها زجاجتين عصير له ولمساعدته، وتركنا أنا والصديق دون أن يقدم لنا شيئا، وقال إنه يشرب نخب توقيع العقد، ويعتذر أنه ليس لديه غير هاتين الزجاجتين، اختلفت أنا والصديق حول ما إذا كان ذلك نوعا من أنواع العنصرية، فيما رأيت أن ذلك يرجع إلى التربية والثقافة، فقد رأى الصديق أنها عنصرية!

سلوكيات كثير من الألمان الذين لم يتلقوا تعليما جيدا، وغير منفتحين على الثقافات الأخرى ودائما لديهم اعتقاد بأنهم الأفضل، تفسر دائما على أنها عنصرية رغم أنهم لم يقصدوا هذا. 

العنصرية الحقيقية هي الضرر الذي يمكن أن يقع عليك بسبب معتقداتك الدينية، أو العرق واللون، والقانون الألماني يجرم ذلك.

 قبل عدة سنوات اشتكت عاملة مسلمة في شركة طيران ألمانية من الاضطهاد بسبب الحجاب، وتم طرد الموظفة لكن المحكمة أنصفتها وأعادتها إلى العمل ووقعت عقوبة غرامة مالية كبيرة على الشركة.

العنصرية البغيضة

التجربة العنصرية الحقيقية التي مررت بها كانت أثناء تغطية مظاهرات ليمنيين متطرفيين يعارضون بناء أحد المساجد في ميونخ، دخلت وسطهم وأخرجت الكاميرا، لكن يدا غليظة أمسكت بيدي، وطلب مني عدم التصوير وكان مرعبا أنني أعرفك!! 

نعم تستطيع العرقيات المختلفة أن تعيش معا دون مشاكل ودون أن تتحرش ببعضها البعض، فلا اللون ولا الثقافة ولا حتى اللغة تعرقل تفاهم الإنسان مع الإنسان.
من تجاربي الشخصية خلال سنوات طويلة من الإقامة في الغرب والتعامل مع معظم الجنسيات، أستطيع الجزم أن الاندماج الناجح في مجتمعات الغرب، في ظل احترام المعتقدات والثقافات المتبادل، هو أقصر الطرق للتعايش السلمي وعدم خلق بيئة للتعصب والعنصرية.

 كثيرا هنا ما  تكتشف أن جيرانك أو زملاءك في العمل يختلفون عنك في المعتقدات، فمنهم البوذي والمسلم والمسيحي واليهودي والملحد،  لكن تجمهم بوتقة واحدة وهي بوتقة الإنسانية  التي تحتم عليهم التعامل معا بشكل راقٍ، ودائما في  إطار الهدف الذي جمعهم، وقد تتحول شعارات العنصرية إلى نكات يتبادلونها.
أتذكر في لقاء جمع زملاء على مائدة أحد المطاعم أن فرحا بافاريا كانا في الصالة المجاورة، وكان صاخبا للغاية فقال لي أحد الزملاء حتى نتخلص من ذلك الإزعاج عليك القيام بحمل هذه الزجاجة تم تصرخ بأعلى صوت “الله أكبر” وتلقيها، سيهربون وينفض الفرح على الفور، هو كان يقصد ظاهرة الإسلاموفوبيا ومدى خوف الألمان منها.

لا شك أن العنصرية البغيضة أودت بحياة عديدين هنا منهم مروة الشربيني المصرية التي قتلها عنصري بائس، وأتراك عديدون تم حرق منازلهم، وهناك اعتداءات على مساجد وعلى دور عبادة والعبث بمقابر يهود.

الخطر الداهم

أخطر أنواع العنصرية هي التي تكتشفها في مسؤولين كبار مهمتهم خدمة أفراد المجتمع ومنهم المهاجرين، مثلا اكتشاف قاضٍ عنصري أو ضابط أو سياسي أو صحفي، هؤلاء خطر داهم على المجتمع.
 إن احدى الصحفيات الألمانيات تنكرت في ملابس امرأه عربية وذهبت إلى بناية أحد مكاتب الخدمات البافارية لترصد كيفية التعامل معها، قالت إن بعضهم كانوا يتعمدون الحديث معها بلغة دارجة حتى يصعبون عليها الفهم اعتقادا منهم أنه عربية لا تحسن الألمانية.

وفي المدارس العليا والجامعات والمنح الهامة، يشتكي كثيرون من أبناء المهاجرين أنهم لا يحصلون على فرص عادلة بسبب أسماءهم!

الطريق الوحيد لتعايش المختلفين معا في مجتمع واحد هو إيجاد لغة مشتركة تجمع بينهم وهي لغة يصنعها دائما الأذكياء حتى تسير الأمور دائما بشكل طبيعي.

 

 

 

 

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه