لا حرب أمريكية إيرانية

إيران توفر لـ ترمب فرصة ثمينة للظهور كبطل أمام جمهوره وقاعدته الصلبة وأمام الشعب الأمريكي باعتباره يواجه إيران القوية إقليمياً ولا يهابها

 

رغم التصعيد السياسي، والحشد العسكري الأمريكي في مياه الخليج العربي، فلا واشنطن ستعلن حرباً ضد إيران، ولا إيران ستطلق رصاصة واحدة على البوارج أو المصالح الأمريكية في الخليج والمنطقة.

هذا الضجيج مقصود أمريكياً، وفيه مصلحة إيرانية كذلك، فالرئيس ترمب أخفق في كوريا الشمالية، وواضح أن كيم جونغ أون يناور بعد قمتين، في سنغافورة (12 من يونيو/حزيران 2018)، وفيتنام (28 من فبراير/شباط 2019)، لم تحققا نتيجة إيجابية على صعيد نزع النووي الكوري، وإيقاف تطوير برامج الصواريخ البالستية.

كما أخفق ترمب في فنزويلا، وفشل حتى الآن في الإطاحة بالرئيس نيكولاس مادورو، وفرض خوان غوايدو رئيساً، وهو “الدمية” التي يحركها مستشار الأمن القومي جون بولتون، وحتى على مستوى تدبير انقلاب عسكري صريح لم يكن ناجحاً فيه.

وفي الملف الفلسطيني، ورغم الخطوات التي اتخذها لصالح إسرائيل فيما يُسمى صفقة القرن، فليس هناك تفاؤل بإمكانية تمرير الصفقة، وشطب القضية الفلسطينية كما يخطط لذلك مستشاره وصهره اليهودي الصهيوني جاريد كوشنر.

تصعيد أمريكي دعائي

كان شهر مايو/أيار الجاري فرصة ترمب لمزيد من التصعيد في الملف الإيراني لتوظيفه دعائياً من أجل تعويض الإخفاقات في الملفات الخارجية الثلاثة السابقة، ففي بداية هذا الشهر كانت نهاية مهلة الـ (6) أشهر الممنوحة لـ (8) دول، بات عليها التوقف عن شراء نفط إيران التي يرغب في تصفير صادراتها النفطية، وهي وغيرها من عقوبات اقتصادية قاسية أعاد فرضها على طهران بعد انسحابه من الاتفاق النووي (8 مايو 2018).

هذا الرئيس وإدارته أكدوا مراراً أنهم لا يخططون لإسقاط النظام الإيراني، إنما فقط يريدون تغيير سلوكه ليكون عامل هدوء واستقرار في المنطقة، ويتخلى عن دعم التطرف والإرهاب، والثلاثاء 13 من الشهر الجاري قال وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو خلال زيارته إلى روسيا إن بلاده لا تسعى لخوض حرب مع إيران، وتنتظر منها أن تتصرف كدولة طبيعية.

ترمب الباحث عن لقطة “القمة” مع إيران

ما يريده ترمب من طهران أن يتصل به قادتها، ويتفاهمون معه على عقد قمة على غرار ما جرى مع كوريا الشمالية، وقد ترك رقم هاتف خاص مع السويسريين لتمريره للإيرانيين إذا أرادوا الاتصال به، وكان عرض عليهم مراراً اللقاء من منطلقات التاجر الذي يريد أي مكسب ولو محدوداً، وهو لا يعنيه كثيراً نتائج القمة مع الإيرانيين، إذا عُقدت، هل تتمخض عن تعديل جذري للاتفاق النووي، والتفاوض حول تجارب الصواريخ البالستية، أم يدخل الطرفان في لعبة شد وجذب طويلة؟، فهو عاشق للأضواء واللقطة، ويريد توظيف حدثاً تاريخياً مثل هذا، إن تحقق، لاعتبارات تتعلق بطبيعة تركيبته الشخصية وعشقه لذاته حيث يرى نفسه الرئيس الذي لم تنجب أمريكا مثله فهو القادر على جلب الأعداء والخصوم إلى الطاولة أمامه، كما تتعلق الاعتبارات بشعبيته المتأرجحة داخلياً، وباستعداداته لانتخابات الفترة الرئاسية الثانية التي اقتربت ( نوفمبر 2020)، وكذلك إشغال الأمريكان بانتصار سياسي وإعلامي حتى لو كان وقتياً، والضغط على الديمقراطيين ومحاصرتهم لكي لا يمنحهم فرصة لمحاصرته هو خاصة بعد إفلاته من الإدانة الصريحة في تقرير روبرت مولر واطمئنانه على ما تبقى من رئاسته وارتفاع روحه المعنوية.

“فزاعة” إيران وخزينة الأموال الخليجية

وضمن أهداف التصعيد السياسي، وليس العسكري، مع إيران حالياً أن يقدم بعض الترضية للحلفاء الخليجيين الذين يدعمونه مالياً وسياسياً بسخاء منقطع النظير، ويلتفون حوله، ويسيرون وراءه، ولا يردون له طلباً، بل يتلقون الإهانة تلو الإهانة وهم صامتون، وتحجيم إيران وضغطها أحد مطالبهم منه ضمن أجندة تفاهمات إقليمية متفق عليها بينه وبينهم منذ انتخابه.

السعودية ودول الخليج خزينة أموال كاملة الدسم يجب أن تظل مفتوحة ليأخذ منها ترمب دون حساب، وهذا يحدث بالفعل، وإيران هي “فزاعة” هذه الدول، ولهذا سيظل يُصّعد ضدها، ولن يسمح بالتهدئة حتى لو رغبت طهران في ذلك، فهي الفتيل الذي يجعل أوضاع الخليج مشتعلة، ويجعل الحلفاء مستعدين للتماهي مع روحه الشرهة للابتزاز والاستعلاء، ولو كانت إيران بنظامها الحالي الديني المذهبي التصادمي التوسعي غير موجودة لسعت أمريكا لصنعها لأن في وجودها مبرر آخر مهم لبقاء واشنطن في منطقة الطاقة الأهم في العالم، ومنطقة شراء السلاح الأولى في العالم، والمنطقة التي تتواجد فيها إسرائيل، وهو جاء ليقدم لمحبوبته ما لم يقدمه الرؤساء السابقون عليه، وينهي ما تبقى من حواجز بينها وبين العرب، ويحولها إلى صديق طبيعي لهم ويخرجها من خانة العدو لتحل محلها إيران، ويكون التحالف عربياً إسرائيلياً علنياً في مواجهة إيران في انقلاب كامل وشامل للمفاهيم والعقائد والثوابت القومية والتاريخية والدينية والثقافية العربية.

 40 عاماً من دون طلقة متبادلة

منذ نجاح  الثورة في إيران عام 1979، وإسقاط الشاه، وهيمنة الخميني على السلطة، وجعل وجه إيران والحكم فيها دينياً مذهبياً، وإقصاء كل القوى السياسية غير الإسلامية الشريكة في الثورة، فإنه طوال 40 عاما من العداء المُفترض مع أمريكا لم تُختبر إيران في مواجهة حقيقية مع الشيطان الأكبر، وهو الوصف الشعبوي الذي تطلقه على أمريكا، كما لم يخض الشيطان الأمريكي معركة مباشرة واحدة ضد إيران، كلها معارك في السياسة، والاقتصاد، والعلاقات الدولية، والمحاور، والضغوط النفسية فقط.

وفي اليوم الذي أكد فيه بومبيو أن أمريكا لن تحارب إيران فإن المرشد الإيراني علي الخامنئي عبر عن نفس المضمون وبنفس الكلمات قائلاً: لن تكون هناك حرب مع الولايات المتحدة. وكأن الاثنين يقرأن من نص سياسي واحد متفق عليه بينهما.

مواجهات بين الوكلاء فقط

ومن سيتحدث عن مواجهات عسكرية تجري بين الطرفين طوال أربعة عقود، هي عمر العداء الظاهر بينهما، فإن المواجهات عندما تجري تكون عبر وكلاء يستهدف فيها حلفاء كل طرف حلفاء الطرف الآخر، دون أن يتورط الطرفان الأصيلان في التصويب المباشر على بعضهما بعضاً، ولو لمرة واحدة.

 هناك فواصل وخطوط حمراء يلتزم بها كل بلد في علاقته مع البلد الآخر، ولا يسعى لتجاوزها أو اختراقها، وحاملات الطائرات،  وطائرات بي 52، ومنظومات الدفاع الجوي (باتريوت)، وما يتواجد في القواعد الأمريكية بالخليج، هي استعراض قوة فقط، ولن تستهدف منشآت ومراكز حيوية إيرانية، والتصريحات الإيرانية المضادة عن الاستعدادات العسكرية للدفاع عن أنفسهم هدفها تسجيل الحضور أيضاً في لعبة الاستعراض المتبادل، لكن لا حرب عملية ستقع، لأنه لا مصلحة للطرفين فيها، ولا حاجة من الأصل لها، بل هما في حالة احتياج متبادل، ولهذا ينفي البيت الأبيض سريعاً أنباء صحفية بشأن الدفع بـ 120 ألف جندي للشرق الأوسط، وطهران تشدد من جانبها على أنها لن تطلق الرصاصة الأولى، والحقيقة أنها لن تطلق أي رصاصة، وخامنئي يؤكد باطمئنان: نحن لا نسعى للحرب، وهم لا يسعون للحرب.

إيران في خدمة أمريكا

إيران توفر لترمب فرصة ثمينة للظهور كبطل أمام جمهوره وقاعدته الصلبة وأمام الشعب الأمريكي باعتباره يواجه إيران القوية إقليمياً ولا يهابها، وهذا يسهل له الحفاظ على قاعدته الناخبة، كما يستعيد الأصوات المترددة التي يفقدها، فهو الرئيس الذي يعيد لأمريكا قوتها وهيبتها في الخارج بعد مظاهر الضعف في رئاسة أوباما.

 وقد سبق وهدد بإزالة كوريا الشمالية من على وجه الأرض، واليوم يطلق تصريحات مشابهة ضد إيران إذا هددت المصالح الأمريكية، وهذا الخطاب العنتري يجذب فئات أمريكية تؤمن بالتفوق للعرق الأبيض، وتضم القوميين والعنصريين والنازيين المتطرفين وتيارات مسيحية إنجيلية متشددة وجماعات يهودية صهيونية، ويحظى بالثناء من اليمين المتطرف في أوروبا والعالم، فهو الرمز الأعلى له.

 وأمريكا في خدمة إيران

وبالمقابل توفر إدارة ترمب للنظام الإيراني فرصة إحكام قبضته على الشعب، ومواصلة معارك التعبئة لحشد المواطنين وراءه، وفرض منع تام على أي حديث عن الفقر المتسع والأوضاع المعيشية والخدمية المتدهورة والغلاء الفاحش وانهيار العملة الوطنية والحريات المصادرة باعتبار البلد يخوض حرباً وجودية، وأن الثورة مهددة، ولا صوت يعلو على صوت المعركة، والموت لأمريكا وإسرائيل!، وبالتالي يجد النظام ذرائع لمواصلة سياساته في القمع وتكميم الأفواه، ويستعيد التيار المحافظ هيمنته على مراكز القرار ومفاصل الدولة ومداخلها المالية، ويضعف التيار المعتدل، وهكذا يتم نقل الإيرانيين من معركة إلى أخرى، وبهذا يتهرب النظام من مسؤولياته تجاه شعبه، إذ بعد 40 عاماً على الثورة لم يبن الجنة الموعودة، ولم يبعث الامبراطورية القديمة، ولم يوفر الرفاهية والحرية للمواطنين، بل جعل الشعب الإيراني في حالة مزرية، وحول البلد إلى سجن كبير، رغم ثروات هائلة نفطية وغازية وطبيعية.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه