التدخل الأجنبي توزان أم مصالح

عودة للكتابة مرة أخرى فالكتابة قدر المؤرقين.

رأي خاص دونته على صفحتي على «فيسبوك» أعقبه تعليقات تسببت في إثارة جدل مرتبك داخل رأسي المرتبك بفعل الواقع المرتبك.

الرأي كان تعليق على خبر مفاده دخول قوات عسكرية تركية لليبيا لمساندة حكومة الوفاق الوطني في مواجهة تحركات «حفتر» المدعومة بالمساندة العسكرية الروسية.

دفعتني قاعدة ثابتة أتبناها منذ زمن طويل، دون تفعيلها مع المتغيرات الزمنية والدولية، وهي رفض الاستعانة بقوات عسكرية خارجية في معارك التحرر والاستقلال أو في الثورات، فكتبت «عندما يصلني خبر بأن القوات التركية دخلت ليبيا لدعم حكومة الوفاق الوطني، أعتبره خبرا سيئا محزنا»، ولم توافقني الكثير من التعليقات على هذا الرأي، وجاءت مؤيدة للتدخل التركي مشفوعة بمبررات يدور معظمها على أنه من الضروري وجود قوى عسكرية في مواجهة محور الشر الذي يدعم قوات «حفتر»، وأن الاستعانة بتركيا حتمية وليست اختياراً.

الاستقلال

التعليقات حملت منطقاً يستحق المناقشة، ولكنه يصطدم بثوابت تتعلق بأن الاستعانة بقوى عسكرية خارجية يحمل ضمنياً تنازل عن الاستقلال وحرية اتخاذ القرارات السيادية بعيدا عن نوايا  الدولة المستعان بها، فدعونا نناقش المشاهد التاريخية المتداخلة حول هذه الفكرة، رغم إعجابي بنظام الكم في تركيا.

بداية دعونا نفرق بين المساعدات العسكرية لدول تحكمها مقومات مشتركة سواء كانت جغرافية أو تاريخية في مواجهة خطر على دولة منهم ويهدد دول الجوار، مثل المساهمات العسكرية للدول العربية في مواجهة الصهاينة أثناء حروبهم مع مصر وسوريا عامي 1967 و1973. وهنا لا نستطيع أن نقول: إن مشاركة قوات عسكرية عربية مع الجيوش المصرية والسورية هو انتقاص من سيادة أو استقلال هذه الدول، فالمصير المشترك هنا هو الضامن لحسن النوايا في هذه الظروف.

فإذا انتقلنا لمثال آخر خاص بأحداث الغزو العراقي للكويت كان هناك موقفان متشابهان في الشكل متناقضان في الأهداف والنوايا، وللأسف كان يسيطر على الموقفين الدولة الكبرى أو القوى العسكرية العظمى صاحبة النوايا السيئة، وأقصد أن تدخل الجيوش العربية ومنها الجيش المصري كان بهدف مواجهة بغي النظام العراقي على الشعب الكويتي وحدوده ردع القوى الباغية ومنعها احتلال الكويت، وفي المشهد كانت القوى العسكرية الأمريكية لها أهداف أخرى تتلخص في فرض الهيمنة الأمريكية على العراق والتخلص منها كقوى عسكرية عظمى تهدد مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة، وظلت القوات الأميركية بعيدة عن المعارك التي خاضتها الجيوش العربية للحفاظ على استقلال الكويت وتحريرها من الاحتلال العراقي، وعندما انتهت المهمة، أرادت أمريكا استخدام القوى العربية في احتلال العراق وخوضها معارك نيابة عنها وتسليم العراق للولايات المتحدة، وهو ما لم تقم به الحكومات العربية ليس عن موقف وطني وإنما عن عدم قدرة على تبرير مثل هذا الفعل أمام شعوبها التي كانت في هذه الفترة في حالة ثورة عارمة ضد التدخل الأميركي الصهيوني في مشكلات المنطقة، وانسحبت القوات العربية التي كانت تقف في مواجهة العراق دفاعا عن استقلال الكويت، دون أن تقف في مواجهة الولايات المتحدة دفاعا عن استقلال العراق، وتركوا العراق فريسة سهلة للتدخل الأميركي الباطش والذي خاض غزوة شرسة قتل فيها الآلاف من العراقيين وسيطر على مقدرات الأمور في العراق وعلى البترول والاقتصاد العراقي كله، وحتى الآن لا نستطيع أن نقول: إن حكومة العراق تمتلك السيادة الكاملة على أرضيها، بل إنها تابعة لإرادة الولايات المتحدة، ولم أتعرض للمبررات التي ساقتها الولايات المتحدة لغزو العراق، لأنها أكاذيب مكشوفة للعالم كله لا ترتقي لمستوى أي مناقشة سواء كان تتعلق بالتسليح النووي أو بدعم الإرهاب والذي هو في الحقيقة صنيعة أميركية في المنطقة بهدف خلق مبرر دائم لاستمرار تدخلها في شؤون ومصير المنطقة العربية كلها.

نوايا زائفة

في حدود معلوماتي المدعومة بالأحداث التاريخية لا يوجد تدخل عسكري خارجي مدفوع بحسن نوايا أو بأهداف إنسانية، في عام 1942 م فاز حزب الوفد في مصر بالأغلبية في انتخابات البرلمان وأصبح من حقه تشكيل الوزارة برئاسة مصطفى النحاس، وكانت العلاقات السياسية في مصر متوترة بين الملك فاروق لآنذاك والنحاس باشا زعيم حزب الوفد الذي كانت له شعبية جارفة في الشارع المصري، وخاف «فاروق» من ازدياد شعبية «النحاس» فرفض تكليفه بتشكيل الوزارة، وهنا استعان النحاس باشا بالقوى العسكرية للمحتل الإنجليزي لإجبار الملك على تكليفه بتشكيل لوزارة وفي 4 فبراير (شباط) من نفس العام حاصرت القوات البريطانية قصر عابدين، وأجبر السفير البريطاني في القاهرة السير مايلز لامبسون الملك فاروق الأول ملك مصر على التوقيع على قرار باستدعاء زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس لتشكيل الحكومة بمفرده أو أن يتنازل عن العرش.

وكان المشهد المتناقض بتكليف زعيم شعبي بتولي الوزارة في مصر تحت ضغط دبابات المحتل الذي يرفضه الشعب!!، فما هي النوايا الحسنة التي دفعت محتل إلى الانحياز للقوى الشعبية التي تقاومه؟، الإجابة أنه ليست هناك نوايا حسنة، وإنما في هذا التاريخ كان الإنجليز في مواجهة مع قوات المحور أثناء الحرب العالمية الثانية وكانوا في أمس الحاجة لاستغلال موارد مصر في هذه الحرب طبقا لنصوص معاهدة 1936م وأدرك لإنجليز أن الوحيد الذي يستطيع تطبيق بنود معاهدة 1936 ومساعدة الإنجليز في مواجهتهم مع دول المحور هو النحاس باشا لما يتمتع به من شعبية جارفة لدى المصريين ولهذا وفور إجبار الملك على تكليف النحاس بتشكيل الوزارة التقى السفير البريطاني بالنحاس باشا وطلب منه تأليف وزارة تحرص علي الولاء لمعاهدة 1936 نصاً وروحاً قادرة علي تنفيذها وتحظي بتأييد غالبية الرأي العام، وأن يتم ذلك في موعد أقصاه 3 فبراير 1942.

الشاهد أن التدخل البريطاني في مواجهة الملك لم يكن بدوافع قيم إنسانية أو مساندة لإرادة الشعب وإنما كان يتعلق بمصلحة بريطانيا وجاءت النتيجة كلها لصالح دعم قوة المحتل واستمراره في احتلال مصر.

الغرض مرض

ولا يخلوا أى قرار سياسي من أغراض ليس لها علاقة بما يتم من إعلانه من أسباب تقف وراء هذا القرار، مثلما حدث في العراق ومثلما يحدث الآن من تدخل روسيا في سوريا ومثل دور ما تطلق عليه الشعوب محور الشر (مصر والإمارات والسعودية) في ليبيا، وهو ما راه البعض مبرر منطقي لتدخل تركيا لصالح حكومة الوفاق الوطني في مواجهة قوات حفتر التي يدعمها محور الشر، والحقيقة أن مشاهد الصراع الغربي في التدخل في شؤون ليبيا وخاصة بين فرنسا وإيطاليا إنما يعيد إلى ذاكرتنا لبدايات القرن التاسع عشر والصراع بين إنجلترا وفرنسا على التدخل في شؤون مصر هذا الصراع الذي مر بتطورات وأحداث كثيرة انتهت بتقسيم المنطقة بين الدولة الغربية المتنافسة على فرض هيمنتها بالمنطقة واحتلال مصر لبريطانيا عام 1882م، ولم تكن لهذه التقسيمات الاستعمارية في المنطقة أى علاقة بالأسباب التي أعلنتها كل دولة منهم كمبرر لقيامها باحتلال دولة ما.

الأمثلة كثيرة وليس بينها مثل واحد يشير إلى تدخل عسكري أو أجنبي بغير غرض، ربما هناك منطق يستحق المناقشة يرى أن قبول تدخل دولة كبرى يحقق توازن في مواجهة تدخل دول كبرى أخرى، أو على الطريقة المحلية (اللهم أضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا منها سالمين)، أو عن قناعة أن هناك حليف عسكري قوي يحمل نوايا حسنة، لا أن الشاهد أن هذا التوازن بين القوات الكبرى المتصارعة على الهيمنة على اى دولة نامية دائما ما ينتهي باتفاق بين الدول الكبرى ووقوع الدولة النامية تحت هيمنة دولة كبرى طبقا لتقسيم تفرضه نهاية الصراع الوهمي بين الدول الكبرى، فصراع الظالمين تكون نتائجه السلبية دائما على الشعوب والدول النامية، التي غالبا ما تكون تحت إدارة أنظمة وحكومات تابعة ومنفذة لمصالح الدول الكبرى، أكثر من حرصها على مصالح شعوبها، وهو ما ينتهي بنا إلى أن الأزمة في بلادنا ومعظم البلاد المحيطة بنا لن تُحل إلا بهيمنة وسيطرة الشعوب على مقدراتها والإطاحة بالأنظمة العميلة وفرض أنظمة شعبية تقف بحق وبدعم شعبي في مواجهة الأطماع الاستعمارية للدول الكبرى دون مساعدة أو هيمنة من أي قوى عسكرية أجنبية.

 وملخص هذا الحل في كلمة واحدة هي الثورة

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه