الغنوشي بين عسكرية البشير، وعلمانية أردوغان

يرى بعضهم أن التنظيم أهم من الدولة، وأن الجماعة قبل الأمة! وإذا أردت أن ترى شيئا من هذا على أرض الواقع فما عليك إلا متابعة تجربة السودان أو تونس.

الحركات والكيانات الإسلامية التي صكوا لها مصطلح جماعات “الإسلام السياسي” قدمت نفسها للمجتمع بأنها تملك مشروعا سياسيا، قوامه الشريعة الإسلامية في مبناها ومعناها، وانتهجت وسائل مختلفة للتغيير والوصول إلى سدة الحكم، كما حدث في مصر والجزائر والمغرب وتونس، بخلاف الجماعات الأخرى التي اقتصرت على العمل الدعوي والخيري، مثل الجمعية الشرعية، أنصار السنة، والدعوة والتبليغ.

لكن بعض هذه الجماعات بعدما وصلت للحكم أو شاركت فيه ضاعت منها البوصلة، فجعلت الوسائل غايات، وتنازلت عن المبادئ والثوابت من أجل الحفاظ على الوسائل والأدوات، وغاب عنهم أن الوصول للحكم وسيلة لإقامة الدين، ودعوة الناس الى الصراط المستقيم، فأصبح الحكم غاية في حد ذاته، وإن أدى إلى التفريط في الدين، وأشاحوا عن أجزاء منه للحفاظ على البقاء في دولاب الدولة!

تجربة البشير

وبنفس منطق الأولويات المقلوبة وتقديم الوسائل على الغايات، يرى بعضهم أن التنظيم أهم من الدولة، وأن الجماعة قبل الأمة! وإذا أردت أن ترى شيئا من هذا على أرض الواقع فما عليك إلا متابعة تجربة السودان أو تونس على سبيل المثال.

فقد هالني أنه بعد أن جثم نظام البشير على صدر السودانيين ثلاثين سنة عسكرية، عشعش فيها الفساد وباض، وأفرخ فيها الظلم والاستبداد! إذا بكثير من الإسلاميين مازالوا يعتبرون عمر البشير إسلاميا، وهو الذي بدأ حكمه بالانقلاب على الحركة الإسلامية التي أوصلته للحكم، وانتصر لتربيته العسكرية، وسجن شيخه وأستاذه د. حسن الترابي، ثم وضعه تحت الإقامة الجبرية!

ويعلل بعضهم تعاطفه مع البشير بأمرين:

الأول: أن الحركة الإسلامية لا تملك بديلا مناسبا، وهنا أسألهم كيف لنظام حكم “إسلامي” حسب رؤيتكم يحكم منذ ثلاثة عقود، ولا يملك الكوادر أو البدائل؟ فهذا وحده يكفي للحكم على التجربة برمتها بالفشل من القاعدة إلى رأس الهرم؛ ولا أظن هذا صحيحا في بلد مثل السودان الذي طالما أتحف الأمة بأهل القيادة والريادة، وما زالت أرحام السودانيات ولادة، وما عقمت عن إنجاب “زول” يحل محل سيدنا عمر “البشير”!

الثاني: يقولون لو تركنا دعم البشير ربما انتقل إلى محور الشر، ومعسكر الثورات المضادة، وهل لم يفعل البشير ذلك بعد؟!
وماذا بقي في جعبته أكثر من المشاركة في تدمير اليمن تحت قيادة محمد بن سلمان ومحمد بن زايد، ومن زيارة سفاح الشام والسعي لإعادة تسويقه!!

تجربة النهضة

أما الأمر في تونس فأشد وضوحا وفضوحا، فالبشير في البداية والنهاية رجل عسكري والعقيدة العسكرية في الغالب تغلب ما عداها،

أما الشيخ عبد الفتاح مورو وكيل البرلمان وشيخ النهضة المعمم، فإنه يقدم خطابا علمانيا صريحا، يتوارى خجلا من القول به علانية، عتاة العلمانية في بلادنا العربية!

ثم دخل الأستاذ الكبير راشد الغنوشي على الخط بعد أن كان متنازلا عن حصته طواعية للشيح مورو، لما يتميز به من ملكات الجدل بوجه مكشوف، ورأس معمم؛ حيث دخل على خط التطبيع مع سفاح الشام، وصرح زعيم النهضة بأنه لابد من الجلوس على طاولة الحوار، والعمل على دعم الاستقرار، في دعوة مبطنة لتوطين النفس على تقبل بشار، الذي فعل بالشعب السوري ما لم تفعله الجيوش الغازية والقوى المحتلة على مر التاريخ!

علمانية تركيا

وهنا يثور سؤال يتكرر كثيرا، وهو لماذا تعيبون على هؤلاء وفي نفس الوقت تثنون على تجربة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وهو يعلنها صراحة أن تركيا علمانية؟

والرد على هذا يأتي من وجوه:

الأول: أن أردوغان لم يقدم نفسه كشيخ أو داعية، أو زعيم لحركة إسلامية، وإنما من البداية أنشأ حزبا سياسيا وليس جماعة إسلامية، وخط لنفسه منهجا يغاير منهج جماعة الإخوان المسلمين في تركيا، والتي يمثلها حزب السعادة، وبالمناسبة زعيم هذا الحزب كان مرشحا للرئاسة ضد أردوغان في الانتخابات الأخيرة، كما أعلنوا أنهم ضد التعديلات الدستورية التي طرحها أردوغان وحازت موافقة أغلبية الشعب التركي!

ثانيا: أردوغان لا يتمحل تخريجات شرعية لتوجهاته السياسية، فهو يمارس السياسة بأدواتها، ويحاسب هو وحزبه على نتائجها، دون الزج باسم الإسلام فيها.

ثالثا: أردوغان ورث شعبا فرضت عليه العلمانية وأصبحت جزءا من عقيدة الدولة، وتشكلت أجيال متغربة انقطعت صلتها بموروثها الديني والثقافي، وهو يسعى جاهدا لاستعادة ما سلب منها وفق خطة متدرجة، بدأت تؤتي أكلها وتجنى ثمارها، بخلاف الشعوب العربية التي يمثل الإسلام أهم عوامل بناء شخصيتها وثقافتها العامة.

رابعا: يرفع أردوغان شعار العلمانية ويكسب كل يوم أرضا جديدة للإسلام، ويرفع غيره راية الإسلام ويتنازل كل يوم عن جزء منه لصالح العلمانية!

ويبقى أمام الحركات المنسوبة إلى الإسلام الخيار في اعتماد التجربة الأردوغانية، دون أن تحمل صلح الحديبية وغزوة مؤتة تبعة اجتهاداتها وإخفاقاتها السياسية، أو يلتزمون بالعمل الدعوي والخيري إلى أن يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده، فإن التقصير في جانب العمل السياسي أقل كلفة وأخف ضررا مما بدأت تنزلق إليه بعض الحركات الإسلامية الآن، وأصبحت كالتاجر الذي باع البضاعة بثمن آجل، وراح ينفق من رأس المال، أملا في تحقيق ربح بعيد المنال.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه