النظرية الاجتماعية الحلزونية!!

الشخص الحلزوني يشبه الخلايا السرطانية

لا يمكن أن يكتمل المقال إلا إذا اتسق مع المقام، وفي أحوال كثيرة تتقافز الحروف خلف قضبان الزمن الرديء صارخة لعل صوتها يصل عبر فيافي الحصار إلى ضالته المنشودة، ومهما طال ذلك الزمن المريض فإن التاريخ شاهد على أن سطوره لا تحمل إلا تلك الحروف المضيئة التي أنارت سبل السالكين في عتمة الظلم، أما أولئك الذين ارتضوا هوامش النفاق والاسترزاق، فقد أصبحوا يشكلون ظاهرة مجتمعية تستحق الرصد والبحث وربما اكتملت كنظرية متماسكة يمكن أن نقيس بها وعليها بعض الشخصيات العامة.

بعض الشخصيات السياسية وخاصة تلك البيروقراطية الطبع لها ملامح مميزة، ولا تختلف تشوهاً عن ملامح أي فهلوي نصادفه في شوارع المحروسة، والاختلاف لا يزيد عن كونه خلافاً في النوع فقط، فلكل مقام مقال، وليس مقام من يشم الكله وينام في الخرابات، كمن أعتلى المقاعد الوثيرة وحفلت به أروع الصالونات.. وابن الشارع الفهلوي غير متعلم ولا يمكن اتهامه بصفة التحضر، أما تلك الشخصيات السياسية البيروقراطية يملك بعضها أعلى الشهادات من الجامعة، وأغلبها يبدو متحضراً إلى أقصى درجات التحضر المعروفة لدى العامة.. حيث معني التحضر لا يتجاوز الصوت الرقيق الأنثوي حتى ولو كان على وجه صعيدي، والابتسامة الصفراء الباهتة، وإتقان التزلف إلى درجة الإبداع …

وأسوأ من في هذه الطبقة هو من لا يكون طاهر اليد أيضاً، فتكتمل نجاسة الفكر مع إثم السلوك

وهذه الأنواع تختلف بعض الاختلافات الطفيفة، إلا أن أبرزها هو شخصية ” الحلزوني “، وأهم صفاته أنه متملق بشكل لزج وممجوج، ونطاط بشكل مفضوح، ومتسلق بنعومة الثعبان، وهو يعلم أنه لا يملك أي إمكانيات أو قدرات أخرى، وليس لديه ما يجيده سوى تطوير تلك الصفات ووضعها في الوقت والمكان المناسبين، وهو ضعيف مكسور الجناح مع أي مصدر للقوة، ولكنه كاسر مهاب الجناح مع أي إنسان لا يوحي بسلطة أو مكانة، وهو مثل كل الطفيليات يقتات على كسب غيره، ولا يمانع في طعن الظهر إذا حانت الفرصة، يأكل على كل الموائد، ويغتاب الناس بلا خجل، ويحترف الكذب …

وأسوأ من في هذه الطبقة هو من لا يكون طاهر اليد أيضاً، فتكتمل نجاسة الفكر مع إثم السلوك، فهو أبعد ما يكون عن الطهارة، ولكنه أكثر الناس حديثاً عنها، ولديه في ذلك نظرية حلزونية فريدة، يرى فيها باختصار أنه يمكنه أن يخدع كل الناس كل الوقت، لأنه يظن أنه أذكى من الآخرين، ومن المعروف أن الخنزير لا يشم رائحته، لأنه لو فعل لمات مخنوقاً بها.

إنه الحلزوني الذي يلتف صاعداً هابطاً بشكل ملتو، فهو عدو الخط المستقيم

الحلزونية أنواع: بعضها غير شديد الخطر مثل ذلك الموظف البسيط، الذي لا يزيد خطره عن أثر معنوي على محيطه من الموظفين، إنما الأخطر هو ذلك الحلزوني الذي يؤثر وجوده وتحركه في محيط أوسع، ومصيبة المصائب أنه يشبه الخلايا السرطانية التي تتكاثر بشكل مهول في زمن قياسي، بما يهدد نسيج المجتمع ويقوض مستقبل الذكاء فيه.. إنه الحلزوني الذي يلتف صاعداً هابطاً بشكل ملتو، فهو عدو الخط المستقيم، يبادرك بابتسامة صفراء واسعة، يمطرك بالقبلات ويعصرك بالأحضان، يجد الكلمات المعسولة بسهولة كي يرشرشها عليك في ثوان معدودة، فأنت جميل وحبيب وليس في الكون لك مثيل، وأنت الصديق الشقيق الرفيق، وأنت أخ لم تلده أمه، وأنت نور عينيه وتاج رأسه، وأنت وأنت وأنت .. حتى تنتهي المصلحة أو دعوة الغذاء أو العشاء، أو حتى ينتزع منك حقك أو يسرق منك فكرة، وبعد ذلك.. بعد ذلك أنت قبيح عدو، يلقاك جافياً ويرمقك شذراً، إذا بادرته بالتحية أدار الظهر إعراضاً، وإذا أقبلت عليه باشاً أولاك وجهاً ثلجياً متأففاً، فإذا هممت بتقبيله تراجع للخلف مشمئنطاً، وإذا عانقته تأذى، يستسيغ لحمك علي كل الموائد، فينهش سيرتك ناكراً فضلك وعلمك، بل يصبح ذلك الفضل والعلم عاهته التي يمعن في محاولة مداواتها بتفاهته وسخريته منك.

وهو جبان رعديد لكنه يجيد المناورة ويقتصر ذكاؤه علي ملكات الهروب من المسؤولية

ذلك الحلزوني الاجتماعي يتصور أنه الأفضل والأذكى، رغم أنه في أغلب الحالات يكون أشد الناس وضاعة وخسة وغباء، لكنه يعيش هذا التصور/ الوهم حتى يصدق كذبته الكبرى، وتساعده إمكانياته الحلزونية على أن يغطس ويختفي داخلاً في الجب إذا واجهته الخطوب والمهام الجسام، وهي نفس الإمكانيات التي تساعده على الالتواء صاعداً برأسه من الجب إذا حانت الفرصة لجني الثمار التي غرسها غيره، ولديه صفات المسمار الحلزوني الذي يجب أن تضربه علي رأسه كي يختفي، إلا أنه يبقى هناك مغروساً يتحين الفرص كي يقب برأسه مرة أخري، وهو جبان رعديد لكنه يجيد المناورة ويقتصر ذكاؤه علي ملكات الهروب من المسؤولية، وادعاء القدرة والموهبة في نفس الوقت، وبعض هؤلاء يتمكنون بالفعل من تسلق السلم الاجتماعي وارتقاء أعلى درجاته، فيكون وبالاً علي ذلك المجتمع الذي تمكن من خداعه، حيث إن أولى مهامه التي يقررها لنفسه هي القضاء على كل الأذكياء والشرفاء، ورفع مرتبة الخسة والغباء.

ومن ناحية أخري أصبح الإنسان غير الحلزوني، المستقيم النبيل المخلص، مذموماً مقبوحاً، فهو خائب الرجا، مقطوع الأمل، يستحق ما يلقاه من عنت وألم، وأصبحت الظاهرة الحلزونية هي دليل القوم في وادي العدم، حتى تكاد الشوارع تمتلئ بالنطاطين الأفاقين من كل شكل ونوع، وامتلأت شاشات التليفزيون وصفحات الصحف بصور الإنسان الحلزوني الجديد، الذي يتحدث في كل شيء من دون أن يفقه شيئاً، ويجلس على القمة من دون أن يذرف نقطة عرق واحدة في الصعود إليها، وتسلط عليه الأضواء الكاسحة من دون أن تكشف عن الظلام العميق الكامن في أعماقه، ويملأ الدنيا ويشغلها من دون أن يتضح لأحد الفراغ الذي يحتل رأسه، فهو ظاهرة حركية تزحم المحيط المجتمعي فتدفع بالمجتمع كله إلى حالة من التنطيط واللغو والانشغال بما لا طائل وراءه، بينما يتوارى الإنسان الحقيقي الذي صنع الحضارة بالكد والعرق والدموع، ويتوارى معه أي أمل في الغد … ولله الأمر من قبل ومن بعد.

المصدر : الجزيرة مباشر