النُّخب الثّوريّة الانتهازيّة

 

 

الأصل في النّخب أنّها تتصدّر للقيادة، وتتقدّم للرّيادة، والرّائد لا يكذب أهله، وأحوج ما تكون المجتمعات إلى نخبِها إذا تشعّبت السُّبُل وتعقّدت الدّروب، وتشابكت الرّؤى، وبحثت الجماهير عن المخرج.

غير أنّ الحال لم تكن على ما يسرّ البال على الدّوام، فقد شهد الواقع الثّوريّ ما يوجب التّوقف عنده من ظهور حالةِ نخبويّة ثوريّة انتهازيّة؛ تجتمعُ فيها ثلاثُ صفاتٍ تشكّل بمجموعها صورة النّخب الثّوريّة الانتهازيّة.

نُخَب الصُّدفة

فور اندلاع الثّورات شهدت الحالة النّخبويّة إرباكًا شديدًا على الصّعُد كافّة، السّياسيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة والإعلاميّة والفكريّة والدينيّة.

هذا الإرباك شهد تأخّر نخبٍ عن ركب الثّورات، وسقوط أخرى سارت في ركب الطّغاة، وانزواء أخرى ثالثة، ممّا ترك الطريق ممهّدةً لصعود أنواع جديدة من النّخب.

وشريحةٌ من هذه النّخب إنّما كان تقدُّمها في حالةِ فراغٍ وإرباكٍ وسقوط نخبويّ من جهة، واحتياجٍ جماهيريّ مجتمعيّ من جهةٍ أخرى؛ احتياجٍ تفرضه الثّورة التي عصفت أركانها في كلّ شيءٍ ابتداءً من أعماق النّفس البشريّة وصولًا إلى أركان الدّولة وأوتاد النّظام.

هنا علت السّطحَ شريحةٌ لا تحمل المؤهّلات ولا القدرات ولا الكفاءات، بقدر ما تحمل من قدرةٍ على ركوب الموجة، واستغلال الحدث، والتّواصل مع الإعلام للحديث عن الثّورة وباسمها.

إنّها نخبٌ أوجدتها الصّدفة الثّوريّة لتغدو في لحظة غفلةٍ من الزّمن رموزًا ثوريّةً تطاول القامات الكبيرة في زمنٍ أصبح فيه الحديث باسم الثورة تزكيةً يورث صاحبه حصانةً من النّقد؛ فيصمت المتابعُ ويبلعها في بطنه حتّى لا يتّهم بالإساءة للثّورة أو البلطجة والتّشبيح للأنظمة المستبدّة.

نُخَب الارتزاق

ممّا ساهم بشدّة في ظهور هذا الشّكل من النّخبة الانتهازيّة، قدرةُ الدّول المختلفة على استغلال الموجة الثّوريّة والدّخول إلى أعماق تلافيفها بمكرٍ ودهاء كبيرين.

كان بعض الذين صدّرتهم الثّورات لا يحلم ‏ بالجلوس مع رئيس مخفر شرطةٍ فإذا هو يجد نفسه مدعوًّا للّقاءِ مع شخصيّاتٍ في وزارات خارجيّة عدد مكن الدّول، أو مدعوًّا للحوار مع ضبّاط مخابرات دولٍ “صديقة”.

 وبعد ذلك تتوالى اللقاءات الإعلاميّة معه بوصفه أحد “رموز” المجتمع أو “نشطاء” الثّورة.

كلّ هذا يحوّلُه شيئًا فشيئًا من حيثُ أراد أو لم يرِد، شعر أو لم يشعر إلى منفّذٍ لتوجّهات “الأصدقاء” المفترضين لقضيّته، وقد أصبحوا أصدقاء له هو؛ يمدّونه بالدّعم اللّازم ليبقى فاعلًا وواقفًا على قدميه.

 وهو لن ينسى لهم دعمهم لثورته التي تتجسّد في شخصه، فيغدو كلّ دعمٍ له دعمًا للثّورة بالضّرورة، وكلّ تقصيرٍ معه تقصيرًا مع الثّورة لا يُغتَفَر.

وهذا الارتزاق النّخبوي لا يكون فقط من خلال التّكسّب باسم الثّورة؛ بل يتعدّى ذلك إلى التغلغل في أوساط الكيانات والجماعات المؤثّرة لبثّ سمومٍ أو شقّ صفّ أو تنفيذ أجندة.

ويعتمد هذا الّنوع من الانتهازيّة على استغلال الرّموز المقبولة والتي لها مكانةٌ عند الجمهور المستهدف؛ كالحجاب والّلحية مثلًا.

فالتّحوّل من السّفور إلى الحجاب في المظهر ـ على سبيل المثال ـ يعطي صاحبته تأشيرة سفر للولوج إلى وسط الجماعات التي تُعلي شان هذا الرّمز ويكون التّوغّل أكثرَ إذا رافق ذلك خطابٌ يعتمد مفردات الخطاب الإسلامي؛ هذا التّوغّل يعطي صاحبته لقب وحصانة ومكانة “الأخت الفاضلة”

هذا النّوع من الانتهازيّة والارتزاق يُقابَل للأسف بالتهليل والتّطبيل من مجتمعات الثّورة؛ فلو أنّ “سجاح” كتبت مقالًا تمدح القومَ فيه لصاروا يتنافسون فيمن يناديها “الأخت الفاضلة”

ولو أنّ “مسيلمة” أشاد بهم في موطن أو مقال لتهامسوا وتغامزوا قائلين لبعضهم: “إنّه من إخواننا”.

نُخَب الفُقَاعة

عادةً ما تكون النّخب الانتهازيّة جوفاء فارغة، وتجمع إلى جانب ذلك سوءَ الأدب والخلق، ويعتريها الانتفاخ ‏وتستخدم أسلوب محاولة هدم الآخرين والهجوم عليهم وإثبات فشلهم للتغطية على ‏فشل الذّات وفراغها وانتهازيّتها.

فهي تطفو على سطح الثّورات مثل فقاعات كلمّا انتفخت أكثر كان حتفها في انتفاخها، ولكنّ انفجارها قد يكون ذاتيًّا وهذا ما يندرُ عادةً، وقد يكون بدبابيسِ الصّادقين من أبناء الثّورة المخلصين لها وهذا هو الواجب.

ومن أهم ما يعتري هذه الشّريحة من النّخب الانتهازيّة أنّها تغدو مجرّد بوقٍ تردّد ما يتمّ تلقينها إيّاه، أو تدريبها عليه، مقابل المكاسب الماديّة والمعنويّة التي يمكن تحصيلُها.

وهذا ما يمكن أن يفسر أحد أسباب شيوع الرّداءة الثّوريّة في وسائل الإعلام ومواقع التّواصل الاجتماعي.

وليسَ شيءٌ اشدّ إساءةً للثّورات في وجوه الطّغاة من اعتلاء الانتهازيين أمواجها، وركوبهم على أكتافها، وتشويههم وجهها المشرق بالوضاعة والارتزاق.

وقد صدق نزار حين قال:

 

ما هو الشعرُ حينَ يصبحُ فأرًا

 كِسـرةُ الخبزِ ـ هَمُّهُ ـ والغِذاءُ

 

وإذا أصبـحَ المفكِّـرُ بُـوقًا

يستوي الفكرُ عندها والحذاءُ

 

وإنَّ رفع الحصانة عن النّخب الثّوريّة الانتهازيّة وكشف زيفها وانتهازيّتها، هو واجبٌ ثوريّ وأخلاقيّ وإنسانيّ، وهو خدمةٌ لقضايا الحقّ والعدل والثّورة في وجه الظّلم.

فالثّورات التي لا تلفظُ خبثها بأيدي أبنائها، تكون كالتي نقضت غزلها أنكاثًا من بعد قوّة؛ فسيندمون ولات ساعةَ مندمِ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه